التراث
الأصيل والتراث الزائف
بقلم
: الكاتب الإسلامي الأستاذ أنور الجندي
رحمه اللّه
هناك محاولة
جديدة للتآمر على عقيدة الإسلام ومنهجه وتراثه التي تتخفى وراء مظاهر الشعر
والبيان والفنون الأدبية والتاريخ بهدف تدمير القاعدة الأساسية للفكر الإسلامي
القائم على مصدريه الأساسيين (القرآن والسنة) والمتصل بمناهج العلوم الإسلامية
التي شكلها علماء المسلمين استمدادًا من القرآن الكريم وأبرزها: المنهج العلمي في
التحقيق التاريخي (الرواية والدراية) المستمد من تحقيق الحديث النبوي الذي شمل من
بعد مجموعة العلوم الإنسانية والتجريبية.
هذا والقرآن
والسنة وما يتصل بهما من تراث أصيل يقوم على أساس مفهوم أهل السنة والجماعة هو
الركيزة الحقيقية لإعادة بناء الأمة الإسلامية على مفهوم الإسلام الصحيح بوصفه
منهج حياة ونظام مجتمع، وهو الخطر الماثل أمام القوى الأجنبية (غربية ويهودية
وماركسية) الذي ظلت هذه القوى تحاربه وتزيفه وتخدع أهله أكثر من قرن ونصف قرن من
الزمان من خلال قانون نابليون بديلاً عن الشريعة الإسلامية؛ ومن خلال تعليم دنلوب،
ومن خلال عمليات التبشير الغربي التي قادها زويمر، ومن بعده في محاولة (لتغريب)
هذه الأمة المؤمنة بالله تبارك وتعالى خالقًا ورازقًا، وإخراجها من جوهر مفهومها؛
فلما أن انكشفت الأستار وتبين فساد المؤامرة وعاد المسلمون إلى منهجهم في جولة
جديدة هي الصحوة الإسلامية كان لابد من تدبير مؤامرات جديدة لعل أخطرها اليوم هي
مؤامرة هدم التراث الأصيل وإعداد التراث الزائف.
ويجري اليوم
تنفيذ هذه المؤامرة عن طريق مجموعة جديدة من الأدعياء يعملون في حقل بعيد تمامًا
عن موضع الخطر، وتتبناه جماعة من الشعوبيين والماركسيين الحاقدين الذين تدثروا
بدثار البحث في التراث الإسلامي؛ حيث لايثير عملهم المحاذيرَ التي قد تَعْلَقُ
بالعاملين في حقل الفكر السياسي أو الاجتماعي سواء عن طريق الليبرالية أو
الماركسية، وهم في الأساس يرفضون التراث الأصيل ويتهمونه بالجمود والضعف،
ويُعْنَون بتراث المتآمرين على الإسلام وأهله من دعاة الحلول والاتحاد ووحدة
الوجود والإشراق وإحياء تراث المجوسية والبوذية والغنوصية وتضمين الشعر الحر
والقصص تلك الأساطير لإذاعتها وإعطائها مكانة الأصل الغائب المهجور على النحو الذي
نراه مُمثَّلاً فيما يُسمُّونه ِ"إحياءَ التراثِ" بمقاييس الهدم
والتدمير من خروج على الأسلوب العربي الأصيل، ومن هدم لقِيَم البلاغة العربية
وأصولها وتغليب جانب الفللكلور الذي يمثل طفولة البشرية على البيان العربي الأصيل
في محاولة لإعطاء الفن القصصي حرية محسوبة تحت اسم ِ"حرية الإبداعِ"، وِ"حرية الإبداعِ" هذه التي
يتشدقون بها هي اسم مضلل لما قام به الزنادقة في القديم، وحاولوا به تحطيم أصالة
البيان العربي والأسلوب القرآني وهي اليوم تمثل محاولة أشد خطورة عندما يُزيِّفون
النصوص التاريخية في محاولة إيجاد صورة فنية مضطربة لا تقيم وزنًا للقيم الأخلاقية
والإنسانية وتذهب بعيدًا في الكشف والإباحة وتدمير الثوابت على النحو الذي نجده في
محاولات القصصة الماجنة التي تتخذ من دعوى حرية الإبداع منطلقًا لتقديم إباحيات
جديدة تحت صور قديمة من التاريخ.
إن هذه
الرسالة رسالة القلم أمانة ومسؤولية، ليست للأهواء والمتاع الرخيص وقد حذَّرَنا
الإسلامُ من التفريط في حماية هذا القلم من الهدف الذاتي أو المطمع القريب وأنه
موضع حساب شديد، ولن يستطيع هذا الهدف الغرير أن يحقق شيئًا لأنه معارض للفطرة
ولقوانين اللغة والفكر والأدب وسوف تتحطم هذه الدعوة كما تحطمت من قبل دعوات جبران
خليل جبران ويوسف الخال ولويس عوض وأدونيس وصلاح عبد الصبور.
إن إحياء
التراث الزائف والمسموم ومحاولة منحه الحياة مرة أخرى من خلال قصة أو قصيدة لن
يحقق شيئًا إلا أن يضع أصحاب هذه الدعوات في خانة الزنادقة والشعوبيين، ولن يستطيع
أن يبلغ هذا العمل شيئًا في النفس المسلمة التي عرفت بلاغة القرآن الكريم وبيان
الرسول صلى الله
عليه وسلم
وما حمل التراث الإسلامي من عطاء ثر يملأ النفوس إيمانًا وتشع منه أضواء الهدى
والضياء.
إنهم يركزون
الحملة على التراث الأصيل ويدعون إلى التراث الزائف الذي كتبه الشعوبيون والباطنية
وخلفاء المجوس والهيلينة والغنوصية.
ومن حقنا أن
نكشف أوراقهم ونفضح دخائلهم في مواجهة شاملة ترمي إلى تحديد الفوارق بين التراث
الأصيل والتراث الزائف.
* * *
ركزت الحملة
على التراث في محاولتين:
الأولى:
تزييفه والتشكيك فيه أو اتهامه بالقصور والضعف والتخلف وعدم الحاجة إليه بحجة تخطي
الزمن له وإثارة جو من الكراهية والاحتقار له بين أهله، في نفس الوقت الذي يُعْلَى
فيه من شأن تراث الوثنية اليونانية والرومانية والفرعونية وتزيين تراث الغرب
وإبرازه بصورة الريادة والبطولة.
الثاني: إحياء
الجوانب الزائفة والمضطربة والفاسدة من التراث على النحو الذي عُرِفَ في تراث
التصوف الفلسفي والفكر الباطني، ولقد ركز الاستشراق على الجوانب المضطربة وجعلها
في الصدارة؛ فقد عمد إلى إحياء التراث الفلسفي اليوناني الذي ترجم في القرنين
الثاني والثالث بعد أن فقده المسلمون وكشفوا زيفه وأعلنوا براءة الفكر الإسلامي
المستمد من التوحيد الخالص منه، فأعادوه مرة أخرى وركزوا على مجموعة من الكتابات
التراثية المسمومة، فأذاعوا بها وجعلوها مصادر للأبحاث والأطروحات وعلى رأسها ألف
ليلة وليلة والأغاني وكتابات ابن عربي وابن سبعين والحلاج في التصوف الفلسفي وما
كتبه الفارابي وابن سينا في الفلسفة .
وهكذا نجد أن
الباحثين العصريين التغريبيين للتراث اليوم يولون وجوههم شطر هذه الجوانب المضيئة.
ويُحبونها، ويهتمّون بها ويوجهون الباحثين إلى إحيائها. ومن هنا كانت أطروحات
الماركسيين حول المزدكية والبابكية والقرامطة والزنج وغيرهم من الفرق الباطنية تحت
اسم أصحاب العدل والحرية.
ولم يتوقف أمر
الباحثين في التراث عند هذا الحد بل هم يذهبون إلى تدمير مقومات ودعائم تفسير
القرآن الكريم فيها جمون الشعر الجاهلي ويدعون أنه منتحل؛ وذلك لأنه قاعدة فهم
اللغة العربية التي جاء القرآن مطابقًا لها. وقد توسع البعض في هذا فدعا إلى هدم
مناهج اللغة وخاصة البلاغة واستقطاب مناهج اللغات دون تقدير للفوارق العميقة بين
اللغات التي نشأت حديثًا من عاميات اللاتينية واليونانية وذلك على النحو الذي
احتضنه الشيخ أمين الخولي.
ولعل أخطر ما
يحاول الاستشراق والغزو الفكري استغلاله في هدم اللغة العربية ما ذهب إليه في دعوى
الحداثة ومايتصل بها من نظرية البنيوية وغيرها من النظريات التي ترمي إلى القضاء
على الجذور والثوابت للغة العربية في محاولة لهدم قوانين النظم العربي، وذلك
بالدعوة إلى أساليب مدمَّرة تستوحي آثار الفلسفة اليونانية القديمة في شعر ذلك
العصر بشار وأبونواس وغيرهم في محاولة لإحياء الفكر الباطني والقضاء على التيار
الأصيل: تيار أهل السنة والجماعة.
وهكذا يصيب
التغريب اللغة والتاريخ وتفسير القرآن من خلال دعوى عريضة هي أن كل علوم العربية
تأثرت بالفكر اليوناني واعتمدت عليه، وهي دعوى باطلة مذمومة؛ فقد نشأت هذه العلوم
وتشكلت أساسًا قبل ترجمة الفلسفة اليونانية على أرجح الأقوال، وأن الفكر اليوناني
حين تُرجِمَ استهجنه المسلمون وقاوموه وكشفوا زيفه. وكان الإمامين الغزالي وابن
تيمية في مقدمة هؤلاء الذين بينوا الفوارق العميقة بينه وبين المفهوم الإسلامي
القائم على التوحيد الخالص، كما بين الامام ابن تيمية أن للقرآن منطقًا مختلفًا عن
منطق أرسطو والفكر اليوناني القائم على علم الأصنام، وعلى مفهوم عبودية الإنسان
للإنسان، واعتماد الرق أساسًا ركينًا لكل حضارة وهو ما هدمه الإسلام وقال فيه
الربعي بن عامر:
(جئنا لنخرج
الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار).
كذلك في أمر
التصوف الفلسفي فقد كشف أهل السنة والجماعة أن هذه المصطلحات التي نقلها ابن عربي
والحلاج وابن سبعين والسهروردي وغيرهم من الفكر اليوناني ومن الأفلوطينه
والإشراقية لايقرها الإسلام ولايعترف بها.
ومن هنا فإن
إعادة البحث عنها على أنها جزء من التراث الإسلامي وإحيائها هي محاولة مضللة يجب
الكشف عنها.
أما التراث
الفلسفي فهو جزء من التراث الزائف جملة وتفصيلاً، فإن المسلمين لم يعتبروه من أساس
فكرهم، وقد وضح أن الفلسفة الإسلامية الحقة قد بدأت بكتاب [الرسالة] للإمام
الشافعي والذي قعد القواعد للفكر الإسلامي.
أما أن يعتبر
البعض رسائل إخوان الصفا مرجعًا للتراث السياسي الإسلامي فهذه دعوى باطلة منقوضة،
ذلك أن رسائل إخوان الصفا قد تأكد أنها من تراث الباطنية المجوسية، والقرامطة
وغيرهم فهي مرفوضة تمامًا. لقد آن الأوان أن يتحدد الموقف تمامًا بين التراث
الأصيل والتراث الزائف وقد حان وقت القول بأن خدعة التغريبيين بإعلاء شأن التراث
الزائف والالتفاف حوله والاهتمام به ومحاولة جَعْلِه أساسًا وفرضه على الدراسات
الجامعية والثقافية هذه الخدعة لن تستمر طويلاً.
فالمثقف
المسلم يعرف الآن حدود البدعة المضللة التي يراد إشاعتها للقضاء على الأصالة
الحقيقية، هذه البدعة الضالة التي تتمثل في دعوى عريضة كاذبة بأن التراث الإسلامي
أو الفكر الإسلامي في عصر التكوين قد اعتمد على مترجمات الفلسفة اليونانية .
فهذا الادعاء
لم يعد يصدقه أحد لأن كل الدلائل تكشف الآن عن أنه لا يمثل إلا مغالطة خطيرة فقد
اكتمل مفهوم الإسلام قبل أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى
وأن الفكر الإسلامي قد تشكل قبل ترجمة الفلسفة اليونانية، وأنه ما كادت الفلسفة
اليونانية تُتَرجم ويكشف سمومها حتى هب علماء المسلمين لمقاومتها وإبراز فسادها
ولطالما أشار الباحثون المسلمون إلى أن هناك فوارق عميقة بين التراث الغربي
والتراث الإسلامي، هذه الفوارق مدعاة لاختلاف النظرة والتعامل مع التراث. فالتراث
الغربي هو في جملته تراث بشري من ناحية وتراث وثني من ناحية أخرى والجانب الديني
المرتبط بأصول من وحي السماء قليلة جدًا، مغيبة في داخل الركام الكثير المختلط بين
أصوله وحواشيه، وبين عصوره المختلفة وهو في غالبه تراث أساطير ليس لها جذور ثابتة
أو أصول أصيلة، ومن هنا فقد عامله الغربيون على هذا النحو، حتى كتبهم المقدسة
عندما تكشفت حولها ظاهرة الفكر البشري بدأ النقاد والباحثون ينظرون إليها على أنها
نص إنساني يجوز نقده وتدوينه في مسرحيات وقصص وقصائد شعرية دون أي تحوط من تغيره
أو تحوله بعد الاضافة والحذف .
أما
التراث الإسلامي فيختلف اختلافًا واسعًا، فالجزء الأكبر منه وهو الميراث يتمثل في
القرآن والسنة، والقرآن نص موثق محفوظ لم يعتوره أي تغيير وكذلك السنة فقد كان
أهلها والقائمون عليها هم الذين أنشأوا المنهج العلمي لدراسة النص ومعرفة رجاله
وهو المنهج الذي اصطنعه المؤرخون من بعد وقام عليه المنهج العلمي الغربي.
أما القسم
الآخر الذي كتبه علماء المسلمون فقد كان استمدادًا من النص القرآني والسنة يجري
كله في مجرى تفسير وتوضيح وبناء وتطوير لكل ما يتصل بعلوم الفقه والسياسة
والاجتماع والنفس والأخلاق والتربية. ومن هنا اختلفت النظرة إلى التراث بين الفكر
الغربي والفكر الإسلامي ويجب أن يختلف، فأصوله ليست موضع شك ولم يدحضها فكر بشري،
أما تفسيراته وإضافاته فإنها قامت على أصول أصيلة محكمة، ولم يبق بعد ذلك إلا هذا
التراث الزائف التي كتبه المجوس والباطنية والشعوبيون من تلك الفرق الزائفة التي
كانت ترمي بكتاباتها إلى هدم المجتمع الإسلامي والتشكيك في القيم الإسلامية والتي
واجهها أهل السنة والجماعة منذ اليوم الأول بالرد على أضاليلها وكشف زيفها ونقص
دعاواها الباطلة .
وقد حاولت
المدرسة العلمانية المضللة منذ اليوم الأول أن تجدد تراث الوثنيين اليونانية
والفكر الباطني القديم وإحياء كتبه بعد أن اندثرت فدعا طه حسين وجماعته إلى اتخاذ
كتاب الأغاني مرجعًا أساسيًا لدراسة المجتمع الإسلامي وهو على ما به من تصوير زائف
للقرن الأول والثاني الهجري. وخاصة فيما يتصل بالخلفاء في عصر بني أمية وبني
العباس واتجه تلاميذهم إلى الهجوم على أساسيات الفكر الإسلامي فكتب فريد رفاعي عن
عصر المأمون (المامون الذي دعا إلى فرية خلق القرآن وحشد لها الحشود) وكتب زكى
مبارك عن (الغزالي) الذي حطم الفلسفة اليونانية وكشف زيف دعاواها (وإن كان قد
اعتذر عن ذلك فيما بعد).
وكتب أحمد
أمين (ضحى الإسلام) عن المعتزلة ووصفهم بأنهم حكماء الإسلام وأحيا طه حسين في
كتابه (هامش السيرة) الأساطير التي دحضها مؤرخو السيرة النبوية بدعوى إنشاء
(ميثولوجيا إسلامية) كما أحيا كثيرون تراث التصوف الفلسفي والفكر الباطني فكتبوا
عن الحلاج وابن عربي وابن سبعين والسهروردي، وكتب غيرهم عن ابن سيناء والفارابي
وكتب غيرهم عن القرامطة والمزدكية والبابكية.
هذا فضلاً عن
ترجمة كثير من الأساطير اليونانية القديمة التي رفضها مترجمو المسلمون في القرن
الثالث، وبذلك انفتح المجال في العصر الحديث إلى توسع دائرة التراث الزائف وخاصة
التراث اليوناني القديم، وكان ذلك من المتناقضات الشديدة الخطر، إذ أن أصحاب
الدعوة إلى التنكر للتراث الإسلامي القريب المتصل بنا في الأربعة عشر قرنًا
الأخيرة، هم أنفسهم الذين يدعون إلى إحياء تراث اليونان والرومان وفارس والفراعنة
السابق لذلك والذي انقطعت الصلة بيننا وبينه.
ولكن قوى ذات
نفوذ كبير كانت وراء هذه الموجة وهي التي مكنت لتدريس اليونانية واللاتينية في
الجامعات المصرية بينما حالت من ناحية أخرى دون حفظ القرآن الكريم في الأزهر
والدعوة إلى تطوير اللغة الغربية والتنكر لأساسياتها في النحو البلاغة .
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب 1429هـ = يوليو 2008م ، العـدد : 7 ، السنـة : 32